الاثنين ، ٢٠ مايو ٢٠٢٤ -
الصوتيات

الفرح والسرور بالسير على نور

27-06-2008 | عدد المشاهدات 4416 | عدد التنزيلات 1267

[الفرح والسرور بالسير على نور(164)]

خطبة جمعة بتاريخ: (23/جمادى الثاني/1429هـ)

(للشيخ العلامة المحدث: أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري -حفظه الله تعالى-)

================================

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس! يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[الحديد:20].

ويقول سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[يونس:24].

هاتان الآيتان وما كان من بابهما فيهما دلالة على فرح الناس بهذه الحياة الدنيا كما أخبر الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾[الرعد:26]، وقال سبحانه: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الأنعام:44] انظر الاستدراج: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[الأنعام:44-45]، لما نسوا تذكير أنبيائهم ورسلهم، والتذكير بالله عز وجل استدرجهم الله، وفتح عليهم أبواب كل شيء، ثم أخذهم الله عز وجل بعد فرحهم بما أوتوا؛ أخذهم على غرة وأخذهم بغتة، فلما أخذهم الله عز وجل أبلسوا، وكأنهم لم يبقوا في هذه الدنيا لحظة واحدة: ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[الأنعام:44]، وأشد الناس فرحاً بهذه الدنيا وبملهياتها هم الكفار والمنافقون، قال الله سبحانه: ﴿وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ﴾[البقرة:96]، قال الله عز وجل: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾[التوبة:81]، المخلفون حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك رأوا أنهم قد أفلحوا وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنوا أن ذلك البقاء على الدنيا وفي ظلالها وبين أولادهم ونسائهم أن ذلك خير لهم، وكرهوا أن يجاهدوا مع رسول الله، ولكن هذا الفرح منهم سبب لهم نكبة ذكرها الله عز وجل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهكذا شأنهم في فرحهم على المؤمنين: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾[التوبة:50]، والشاهد منه: أنهم يفرحون على مصائب المؤمنين، ويقولون: إنهم حذرون وأنهم أناس أذكياء يتوقون النكبات: ﴿قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[التوبة:50-51].

هذه دواعي الفرح عند أهل الدنيا ومغرياتها، أما المؤمنون فإن أعظم الفرح والسرور عندهم هو السير على النور، أعظم طريق لهم وفرح وسرور أن يوفقهم الله عز وجل في هذه الحياة الدنيا، فيستبصروا فيها ويسيروا على هدى، وعلى بصيرة، وعلى طاعة لله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58]، خير من كل الدنيا وما فيها أن يفرح الإنسان بأنه هداه الله عز وجل بهذا النور: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[الأنعام:122].

الشاهد من هذا على أن المؤمن حقاً يشعر بالفرح بهذا الدين الحق، وبهذا الكتاب الحق، وبهذا الرسول الحق، وبهذا العلم الحق، وبهذا الهدى الحق.

وهذا الفرح باعث له إن شاء الله على أن يصير منشرح الصدر، وهذا الانشراح زيادة نور على نور له: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الزمر:22].

وشاهدنا على أن كلما فرح العبد بالهدى الذي هو عليه والخير الذي هداه الله عز وجل له، وعرف لهذا الخير قدره، أن الله عز وجل يشرح صدره بقدر فرحه بما هو عليه من النور، أعظم فرح وسرور أن تعلم وتوقن أن الله هداك لهذا النور، قال الله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، فالله قد اختصك واختارك وهداك وجعلك ممن شاء من عباده الذين هداهم لهذا النور، فينبغي أن تفرح به وأن تحافظ عليه، وأن تعرف له قدره، وأن تعلم أن النور الذي أعطاك الله لم يعطِ كثيراً من الناس، جعلهم في ظلمات وحنادس البدع والشركيات والخرافات والضلالات، وأنت تتمتع بنور تبصر به الحق من الباطل والرشد من الغي، والهدى من الضلال والعمى من البصيرة، كل ذلك وأنت تسير فيه على نور، هذه مكرمة من الله سبحانه، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الأعراف:157]، أتريد بعد هذا من منقبة؛ أن الله جعلك من المفلحين، واصطفاك من الأعداد والملايين، تصير مفلحاً باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[النساء:174-175]، الذي يأخذ هذا النور ويفرح به ويعتز به، ويكون عاضاً على هذه النعمة بالنواجذ هذا طريق الهداية: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾[النساء:175]، ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[المائدة:15-16]، ما هي ظلمة واحدة هي عدة ظلمات يتخبط فيها الناس، وأنت هداك الله عز وجل واختارك للإسلام واختارك للسنة واختبارك لطلب العلم، اعرف لهذه النعمة قدرها.

يقول الله: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾[النور:40]، فمن الذي يعطيك نوراً، من الذي يكسبه النور تفرق به بن الحق والباطل، إذا لم يبصرك الله سبحانه وتعالى تعيش في ضلالة وعمى، قال الله سبحانه في كتابه الكريم: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾[طه:123-126]، يحشر أعمى بسبب تعاميه عن النور وإطفائه لهذا النور، وأشد من يسعى في إطفاء هذا النور هم الكفرة والمنافقون، ومن تشبه بهم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[الصف:7-8]، هذا في وصف المنافقين؛ لأنهم هم الذين يدعون إلى الإسلام ويظهرون الإسلام، ومن أشد السعاة إلى إطفاء نور الله، وقال في سياق المنافقين: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[التوبة:31-32].

هذا كله دليل على أن الكفار والمشركين والمنافقين ساعون جادون لإطفاء نور الله المبين أينما كان؛ أينما كان هم سعاة لإطفاء النور، ويحاولون أن يجعلوا الناس في حنادس الظلمات وفي سائر المتاهات، أي والله.

أنت أيها المسلم على نور أنت على هدى، فإياك إياك أن يطفأ نورك، إياك أن تطفئ نورك أو أن يطفأ عليك نورك، فإن من أطفئ نوره في هذه الحياة الدنيا سار في غي وفي غير هدى، والله سبحانه وتعالى قد امتن على عباده بهذا النور وهو الإسلام والهدى والسنة، وقال في كتابه: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ﴾[فاطر:19-22].

فأخبر بالفارق بين حال من يسير على نور ومن يسير على ظلمة، لازم الإيمان بالله عز وجل وتقواه، لازم طاعة الله والتفقه في دينه حتى يبصرك الله بالحق من الباطل والمحق من المبطل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[الحديد:28].

إن ما يحصل في الناس -والله- من التخبط في الباطل والغي والهوى والدنيا والفتن والقتل والقتال، كل ذلك بسبب قصورهم في تقوى الله سبحانه وتعالى والإيمان به؛ لأن الله يعطي على قدر الحال والطاعة، فمن كان إيمانه قوياً أعطاه الله عز وجل نوراً قوياً، ومن كان إيمانه ضعيفاً كان له النور الضعيف في الدنيا وفي الآخرة: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[الحديد:12]، هذه بشرى وذاك نور، الشاهد من هذا: أن المؤمنين يوم القيامة لهم نور، وبعض الناس له نور ينطفئ تارة ويضيء تارة على حسب حاله، والمنافقون ينطفئ نورهم؛ لأنهم استناروا فأطفئوا، كما أنهم في الدنيا استناروا فأطفئوا نور الله وحاولوا إطفاءه ينطفئ نورهم: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[الحديد:12-14]؛ خمسة أمور تحليتم بها أطفأ الله نوركم بسببها.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[التحريم:8]، هذه صفات المؤمنين الذين ساروا على النور في هذه الحياة الدنيا، هذا أعظم ما يفرح به، أن يسير الإنسان في هذه الدنيا على نور، على بصيرة، هذا شأن المؤمن التابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما يتخبط وما يتذبذب، ولكن يسير على بصيرة، فتفقه في دين الله، فإذا فهم ذلك اقتنع به وسار عليه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف:108]، على بصيرة وعلى نور أوحى إليه ربه سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى:52]، لازم هذا النور، إياك وإطفاء النور، سواء كان إطفاء النور بالكفر أو كان بالشرك أو كان بالتقليد، فقد قال ابن الجوزي رحمه الله: المقلد شأنه كمن أعطاه الله نوراً فأطفأه، ثم مضى بين الظلمة، أي: لم يسر على ذلك ويبقى متابعاً لمن ليس بحجة بلا حجة، أو كان هذا النور تطفئه بالمعاصي، فإن المعاصي من أسباب ما ينطفئ به النور نور المؤمن نور القلب، القلب له بصيرة وله نور، فإذا أظلمت عليه المعاصي انطفأ نوره، أو كان هذا النور في الوجه لا تطفئه، فإن المؤمنين يأتون يوم القيامة سيماهم في وجههم من أثر السجود، أي: من علامات الطاعة، أو كان إطفاء ذلك النور بسبب الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، ما هو نور أبداً، روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»، ليس ظلمة واحدة، بل ظلمات، فمن سعى في الباطل أو الظلم أو المعاصي بشتى أنواعها، فإنه يكون قد أطفأ نوره بيده، ونسأل الله السلامة والعافية.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

هذا النور له أسباب، ومن أعظم أسبابه مع ما تقدم الصلاة، فإن هذه الصلاة تعتبر نوراً كما روى مسلم في صحيحه عن الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، وشاهدنا من الحديث: «والصلاة نور»، فرب إنسان يكون في قسوة وقلبه في ظلمة فإذا دخل في الصلاة استراح وستنار قلبه وخشع لله عز وجل، قد النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أحرنا بها يا بلال»، وكان النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، فاستنر بهذه الصلاة عند حوالك الظلمات وعند المدلهمات والملمات، كن رجاعاً إلى الله سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾[المؤمنون:1-3].. الآيات، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[الأنفال:2-4].

واستنر أيضاً بالمشي إليها بسكينة ووقار وملازمة الأدب الشرعي في المشي إلى المسجد، سواء لطلب العلم أو كان لحضور درس، أو كان للصلاة.. أو لغير ذلك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عن بريدة عند الترمذي وأبي داود: «بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»، هذا من علامات النور أنك تمشي وكل خطوة ترفع لك حسنة والأخرى تكفر خطيئة، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تطهر في بيته ثم أتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لا ينهزه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا كان في المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة تحسبه، والملائكة يصلون على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه، يقولون: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، -وجاءت زيادة-: اللهم تب عليه».

هذه فوائد عظيمة تستفيدها من خلال مشيك إلى الصلاة، وأنك تستنير بذلك هذا نور.

وهكذا أيضاً تقوى الله سبحانه وتعالى، وملازمة طاعته يكرمك الله سبحانه بنور تبصر به الحق من الباطل، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾[الأعراف:201]، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير رضي الله عنهما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فلما افترقا كان مع كل واحد منهما مثل المصباح يمشي عليه في تلك الظلمة، الله أكرمهما، وذكر هذا أهل العلم في كرامات الأولياء، أن الله أعطاهما نوراً علامة على نورهما في الآخرة بإذن الله عز وجل.

ومما تستنير به الحب في الله والبغض في الله، فإن هذا نور المؤمن حقيقة ومن أطفأ هذا النور فإنه بلا نور، فقد ثبت عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المتحابون بجلال الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة»، على منابر من نور وجوههم نور، فقد أخبر الله أن هذا النور هو لهم، لمن أحب في الله، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. -وذكر منهم-: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفارقا عليه»، فهم مع أنهم في نور يوم القيامة، أيضاً في ظل عرش الله عز وجل يوم القيامة.

هكذا مما تستنير به وتسير به على نور في الدنيا ويوم القيامة على أنك تكثر من اللجوء إلى الله سبحانه، فإن الله يقول: ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد:35]، ولاسيما إذا كنت مبتغياً مرضاة الله بالشاهدة أو غيرها: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾[الحديد:19]، هكذا أخبر الله سبحانه؛ أن الشهداء بل والصديقين على تفسيرين، أحدهما: أن الصديقين والشهداء لهم الأجر والنور وهذا هو الصحيح، والآخر على أنه خاص بالشهداء، والصحيح الأول، أن من كان من المؤمنين، بل ومن الصديقين، ومن الشهداء يأخذ نور يوم القيامة، للأدلة المذكورة في سورة التحريم والحديد: ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾[الحديد:19]، فحافظ على ذلك، ومن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم على أنه: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه»، فمهما كان وهو يبتغي ذلك مع إيمانه وتقواه، فإن الله يبلغه ذلك ويصير من الشهداء الذين لهم أجرهم ونورهم يوم القيامة.

هذه علامات تعتبر من علامات النور في الدنيا والآخرة.

فليحرص المؤمن على ما يستنير به، ولا يعيش في حنادس الظلمات والمعاصي والمتاهات: ﴿قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾[النساء:77]، والله إنها من مطفئات النور، وإن الفتن من مطفئات النور، وإن الجهل من مطفئات النور على الإنسان، وإن الغي والبغي والظلم من مطفئات النور، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾[الأنفال:53]، وأعظم نعمة عليك أيها المسلم أنك تعيش في نور والناس يعيشون في ظلمات، وأنت مستبصر بطاعة الله سبحانه وتعالى، تعرف ماذا تأكل حلالاً أم حراماً، تعرف إلى أين تمشي إلى حق أم إلى باطل، تعرف بماذا تنطق بحق أم بباطل، تعرف ماذا تستمع، تعرف كذلك ماذا تأخذ في سائر حياتك وأنت مستنير لا تمد يدك ولا تمضي رجلك ولا تسمع أذنك ولا تطلق بصرك في كل ما تأتي وتذر.

نسأل الله التوفيق لكل ما يحبه الله ويرضاه.